حق لايسقط بأى حال
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
{ووصينا
الإنسان بوالديه أحسانا حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر
لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا
تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم
فأنبئكم بما كنتم تعملون}... سورة لقمان 15 – 16.
روى في سبب
نزول هذين الآيتين وآية العنكبوت وآية الأحقاف المشابهتين لتلك الآية أنها
نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه صمنه بنت أبي سفيان وكان باراً لها، حين
أسلم سعد فقالت: ما هذا الدين الذي أحدثت؟
والله لا آكل ولا أشرب حتى
ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتتغير بذلك أبد الدهر يقال: يا قاتل أمه
ثم أنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب فجاء سعد إليها
فقال يا أماه لو كان لك مائة نفس فخر حب نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي أن شئت، وأن شئت لا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت.
فأنزل
الله هذه الآية عنا بالسعد وآمر بالبر بالوالدين والإحسان إليهما وعدم
طاعتهما في الشرك [وعلى هذا يكون الإيمان قد أنتصر على فتنة القرابة
والرحم وفي الوقت ذاته قد أستبقى الإحسان والبر، والمؤمن معرض لتلك الفتنة
في كل آن ووقت فليكن بيان الله وفعل سعد راية الأمان والنجاة].
وقد
تكررت وصية القرآن بالوالدين في سبع سور منه وخصت بها الأم بزياد توصية
بها لكثرة ما تقاسية وتعانيه من مشقة الحمل والوضع والرضاع والفطام، وقد
روى البزار في مسنده بإسناده أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها،
فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل أديت حقها؟
قال: لا ولا بزفرة واحدة، وفي تلك الوصية يوجه الله تعالى إلى شكره وشكر الوالدين المنعمين وهما مرتبطان فلا تقبل واحدة دون الأخرى.
فعن
أبن عباس رضي الله تعالى عنه قال: أن الله قرن ثلاثة بثلاثة فلا تقبل
واحدة دون الأخرى قال الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}، فمن أطاع
الله ولم يطع الرسول لم يقبل الله طاعته، وقال أقيموا الصلاة وأتوا
الزكاة، فمن أقام الصلاة ولم يأت الزكاة لم يقبل الله صلاته.
وقال تعالى: {أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير}. فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل الله شكره.
وفي
حديث الله لموسى يقول الله تعالى: [لولا من يشهد لا إله إلا الله لصلَّطت
جهنم على أهل الأرض، ولو لا من يعبدني ما أمهلت من يعصيني طرفة عين] يا
موسى أن كلمة من العاق تزن جبال الأرض كلها، قال موسى يا رب من العاق؟
قال: الذي يقول لوالده لا لبيك.
إن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين
ونهى عما يؤذينهما بأقل شيء في قوله: {فلا تقل لهما أف}، [قال بن عباس لو
كان في الكلام لفظ أقل من أف ما قال الله فلا تقل لهما أف] إن من بر
الوالدين طاعتهما من دون معصية وألا تسمى أحد منهما باسمه ولا تمس أمامهما
ولا تجلس قبلهما.
وألا تقوم بخدمتهما وأنت كسلان وألا ترفع صوتك
أمامهما ولا تنظر أليهما شزراً وألا يريا منك مخالفة في الظاهر أو الباطن
وأن تترحم عليهما ما عاشا وتدعوا لهما إذا ماتا وأن تنفق عليهما إذا
احتاجا النفقة وأن توسع عليهما وأن تكفهما النفقة وألا تؤثر عليهما زوجة
ولا ولد وأن ترحمهما من الأعمال الوضيعة.
ومن البر بهما أن تستأذنهما
في الجهاد ومن البر بهما بعد موتهما رعاية من كانا يرعيانه وصلة قرابتهما
وتنفيذ وصيتهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وأكرام صديقهما والصلاة
عليهما والأستغفار لهما.
إن دعوة الوالدين لولدهما أو عليه ليست بينهما
وبين الله حجاب يقول صلى الله عليه وسلم لا شك في أجابتهن دعوة المظلوم
ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده هذا وليس كالإحسان للوالدين شيء
يدانيه أو يساويه فهو مما يفرج الله به الأزمات ويرد به المهلكات.
فعن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
أنطلق ثلاثة تفر ممن كان قبلكم حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فأنحدرت
صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار.
فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة
إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح إعمالكم: قال رجل منهم اللهم كان لي والدان
شيخان كبيران وكنت لا أعبق قبلهما أهلا ولا مالا – يعنى لا أسقى قبلهما في
العشي أحدار فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرُح عليهما حتى ناما فحلبت لهما
عنبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبُق قبلهما أهلا أو مالا
فلبثت والقدح على يدي أنتظر حتى يرق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي.
فاستيقظا
فشربا غبوقهما اللهم أن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه
فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه، وتوسل الثاني بضعته عند أبنة عمه
وأعطاها ما تريد من ماله وتوسل الثالث بتوفيته حق الأخير حتى انفرجت
الصخرة كلها وخرجوا يمشون.
ومما يروى أن موسى عليه السلام كان يدعوا كل
يوم ويقول اللهم أرني رفيقي في الجنة وفيما هو يسير نحو غايته تلقاه شاب
فسلم عليه فقال له موسى عليه السلام: يا عبد الله أنا ضيفك الليلة.
فقال
له الشاب: يا هذا إن رضيت بما عندي أنزلتك وأكرمتك فقال عليه السلام قد
رضيت وكان يعمل قصابا، فأخذ بيد موسى وأنطلق إلى حانوته وأجلسه حتى فرغ من
بيعه، وكان لا يمر بشحم ولا مخ إلا عزله ثم أنطلق به إلى بيته وطبخ الشحم
والمخ وتقدم نحو قفة فيها شيخ كبير قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر
وأخرجه منها وغسل وجهه وثيابه وعمد إلى الخبز ففته ثم صب عليه الشحم والمخ
وأطعمه حتى شبع وسقاه حتى روى.
ثم رده إلى مكانه فقال له أبوه لا خيب
الله لك سعيا يا ولدي وجعل موسى بن عمران رفيقك في الجنة ثم فعل بقفة أخرى
ما فعل بالأولى وكان فيها أمه ، فبكى موسى عليه السلام رحمة بهما ثم قدم
لموسى الطعام فقال له : ما أنا في حاجه إلى طعامك ولكني سألت الله أن
يريني رفيقي في الجنة.
فقال له الشاب : من أنت يرحمك الله؟ فقال له:
أنا نبي الله موسى فخر الشاب وغشي عليه ولما أفاق دخل على والديه فأخبرهما
أن الله قد أستجاب دعاءهما وأن الضيف هو نبي الله موسى عليه السلام وقد
أخبره بذلك عن رب العالمين.